سورة النحل - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


ولما ذكر الأغوار، الهابطة الضابطة للبحار، أتبعها الأنجاد الشداد، التي هي كالأوتاد، تذكيراً بما فيها من النعم فقال: {وألقى في الأرض} أي وضع فيها وضعاً، كأنه قذفه فيها قذفاً، جبالاً {رواسي} مماسة لها ومزينة لنواحيها، كراهة {أن تميد} أي تميل مضطربة يميناً وشمالاً، أي فيحصل لكم الميد، وهو دوار يعتري راكب البحر {بكم} فهي ثابتة لأجل ذلك الإلقاء، ثابتة مع اقتضائها بالكرية التحرك.
ولما ذكر الأوهاد، وأتبعها الأوتاد، تلاها بما تفجره غالباً منها، عاطفاً على {رواسي} لما تضمنه العامل من معنى جعل فقال: {وأنهاراً} وأدل دليل على ثبات الأرض ما سبقها من ذكر البحار، ولحقها من الحديث عن الأنهار، فإنها لو تحركت ولو بمقدار شعرة في كل يوم لأغرقت البحارُ من إلى جانب الانخفاض، وتعاكست مجاري الأنهار، فعادت منافعها أشد المضار، ولو زادت البحار، بما تصب فيها الأنهار، على مر الليل وكر النهار، لأغرقت الأرض، ولكنه تعالى دبر الأمر بحكمته تدبيراً تعجز عن الاطلاع على كنهه أفكار الحكماء، بأن سلط حرارة الشمس على الأرض في جميع مدة الصيف وبعض غيره من الفصول، فسرت في أغوارها، وحميت في أعماقها في الشتاء، فأسخنت مياه البحار وغيرها فتصاعدت منها بخارات كما يتصاعد من القدر المغلي بقدر ما صبت فيها الأنهار، فانعقدت تلك البخارات في الجو مياهاً لما بردت، فنزل منها المطر، فأحيا الأرض بعد موتها، وتخلل أعماقها منه ما شاء الله، فأمد الأنهار، ولذلك تزيد بزيادة المطر وتنقص بنقصه، وهكذا في كل عام، فأوجب ذلك بقاء البحر على حاله من غير زيادة، فسبحان المدبر الحكيم العزيز العليم! ولما ذكر ذلك، أتبعه ما يتوصل به إلى منافع كل منه فقال تعالى: {وسبلاً}.
ولما كانت الجبال والبحار والأنهار أدلة على السبل الحسية والمعنوية، قال تعالى: {لعلكم تهتدون} أي يحصل الاهتداء فتهتدوا إلى مقاصدكم.
ولما كانت الأدلة في الأرض غير محصورة فيها، قال: {وعلامات} أي من الجبال وغيرها، جمع علامة وهي صورة يعلم بها المعنى من خط، أو لفظ أو إشارة أو هيئة، وقد تكون علامة وضعية، وقد تكون برهانية.
ولما كانت الدلالة بالنجم أنفع الدلالات وأعمها وأوضحها براً وبحراً ليلاً ونهاراً، نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم لئلا يظن أن المخاطب مخصوص، وأن الأمر لا يتعداه، فقال تعالى: {وبالنجم هم} أي أهل الأرض كلهم، وأولى الناس بذلك أول المخاطبين، وهم قريش ثم العرب كلها، لفرط معرفتهم بالنجوم {يهتدون} وقدم الجار تنبيهاً على أن دلالة غيره بالنسبة إليه سافلة.
ولما لم يبق- بذكر الدلائل على الوحدانية على الوجه الأكمل، والترتيب الأحسن، والنظم الأبلغ- شبهة في أن الخالق إنما هو الله، لما ثبت من وحدانيته، وتمام علمه وقدرته، وكمال حكمته، لجعله تلك الدلائل نعماً عامة، ومنناً تامة، مع اتضاح العجز في كل ما يدعون فيه الإلهية من دونه، واتضاح أنه سبحانه في جميع صنعه مختار، للمفاوتة في الوجود والكيفيات بين ما لا مقتضى للتفاوت فيه غير الاختيار، فثبت بذلك أنه قادر على الإًّتيان بما يريد.
قال مسبباً عن ذلك: {أفمن يخلق} أي يجدد ذلك حيث أراد ومتى أراد فلا يمكن عجزه بوجه لتمكن شركته {كمن} شركته ممكنة، فهو أصل في ذلك بسبب أنه {لا يخلق} أي لا يقع ذلك منه وقتاً ما من الأصنام وغيرها، في العجز عن الإتيان بما يقوله؛ المستلزم لأن يكون ممكناً مخلوقاً، ولو كان التشبيه معكوساً كما قيل لم يفد ما أفاد هذا التقدير من الإبلاغ في ذمهم بإنزال الأعلى عن درجته، وعبر بمن لأنهم سموها آلهة، وأنهى أمرها أن تكون عاقلة، فإذا انتفى عنها وصف الإلهية معه لعدم القدرة على شيء انتفى بدونه من باب الأولى.
ولما سبب عن هذه الأدلة إنكار تسويتهم الخالق بغيره في العجز، سبب عن هذا الإنكار إنكار تذكرهم، حثاً لهم على التذكر المفيد لترك الشرك فقال: {أفلا تذكرون} بما تشاهدونه من ذلك ولو من بعض الوجوه- بما أفاده الإدغام- لتذكروا ما يحق اعتقاده.


ولما كانت المقدورات لا تحصر، وأكثرها نعم العباد مذكرة لهم بخالقهم، قال تعالى ممتناً عليهم بإحسانه من غير سبب منهم: {وإن تعدوا} أي كلكم {نعمة الله} أي إنعام الملك الذي لا رب غيره، عليكم وإن كان في واحدة فإن شعبها تفوت الحصر {لا تحصوها} أي لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم مع كفرها وإعراضكم جملة عن شكرها، فلو شكرتم لزادكم من فضله.
ولما كانوا مستحقين لسلب النعم بالإعراض عن التذكير، والعمى عن التبصر، أشار إلى سبب إدرارها، فقال تعالى: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال بجميع صفات الإكرام والانتقام {لغفور رحيم} فلذلك هو يدر عليكم نعمه وأنتم منهمكون فيما يوجب نقمه.
ولما جرت العادة بأن المكفور إحسانه يبادر إلى قطعه عند علمه بالكفر، فكان ربما توهم متوهم أن سبب مواترة الإحسان عدم العلم بالكفران، أو عدم العلم بكفران لا يدخل تحت المغفرة، قال مهدداً مبرزاً للضمير بالاسم الأعظم الذي بنيت عليه السورة للفصل بالفرق بين الخالق وغيره ولئلا يتوهم تقيد التهديد بحيثية المغفرة إيماء إلى أن ذلك نتيجة ما مضى: {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة بجميع صفات الإكرام والانتقام {يعلم} أي على الإطلاق {ما تسرون} أي كله. ولما كان الإسرار ربما حمل على حالة الخلوة، فلم يكن علمه دالاً على الإعلان، قال تعالى: {وما تعلنون} ليعلم مقدار المضاعفة لموجبات الشكر وقباحة الكفر، وأما الأصنام فلا تعلم شيئاً فلا أسفه ممن عبدها.
ولما أثبت لنفسه تعالى كمال القدرة وتمام العلم وأنه المنفرد بالخلق، شرع يقيم الأدلة على بعد ما يشركونه به من الإلهية بسلب تلك الصفات فقال تعالى: {والذين يدعون} أي دعاء عبادة {من دون الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {لا يخلقون شيئاً} ولما كان ربما ادعى مدع في شيء أنه لا يخلق ولا يخلق، قال: {وهم يخلقون}.
ولما كان من المخلوقات الميت والحي، وكان الميت أبعد شيء عن صفة الإله، قال نافياً عنها الحياة- بعد أن نفى القدرة والعلم- المستلزم لأن يكون عبدتها أشرف منها المستلزم لأنهم بخضوعهم لها في غاية السفه: {أموات} ولما كان الوصف قد يطلق على غير الملتبس به مجازاً عن عدم نفعه بضده وإن كان قائماً به عريقاً فيه قال: {غير أحياء} مبيناً أن المراد بذلك حقيقة سلب الحياة على ضد ما عليه الله {ألا له الخلق} من كونه حياً لا يموت، ولعله اقتصر على وصفهم- مع أنهم موات- بأنهم أموات لأن ذلك مع كونه كافياً في المقصود من السياق- وهو إبعادهم عن الإلهية- يكون صالحاً لكل مخلوق ادعى فيه الإلهية وإن اتصف بالحياة، لأن حياته زائلة يعقبها الموت، ومن كان كذلك كان بعيداً عن صفة الإلهية.
ولما كانوا- مع علمهم بأن الأصنام حجارة لا حياة لها- يخاطبون من أجوافها بألسنة الشياطين- كما هو مذكور في السير وغيرها من الكتب المصنفة في هواتف الجان، فصاروا يظنون أن لها علماً بهذا الاعتبار، ولذلك كانوا يظنون أنها تضر وتنفع، احتيج إلى نفي العلم عنها، ولما كانوا يخبرون على ألسنتها ببعض ما يسترقونه من السمع، فيكون كما أخبروا، لم ينف عنها مطلق العلم، بل نفي ما لا علم لأحد غير الله به، لأنهم لا يخبرون عنه بخبر إلا بان كذبه، فقال تعالى عادّاً للبعث عداد المتفق عليه: {وما يشعرون} أي في هذا الحال كما هو مدلول ما {أيان} أي أيّ حين {يبعثون} فنفى عنهم مطلق الشعور الذي هو أعم من العلم، فينتفي كل ما هو أخص منه.


ولما كانت أدلة البعث قد ثبت قيامها، واتضحت أعلامها، وعلا منارها، وانتشرت أنوارها، ساق الكلام فيها مساق ما لا خلاف إلا في العلم بوقته مع الاتفاق على أصله، لأنه من لوازم التكليف، ولما اتضح بذلك كله عجز شركائهم، أشار إلى أن منشأ العجز قبول التعدد، إرشاداً إلى برهان التمانع، فقال على طريق الاستئناف لأنه نتيجة ما مضى قطعاً: {إلهكم} أي أيها الخلق كلكم، المعبود بحق {إله} أي متصف بالإلهية على الإطلاق بالنسبة إلى كل أحد وكل زمان وكل مكان {واحد} لا يقبل التعدد- الذي هو مثار النقص- بوجه من الوجوه، لأن التعدد يستلزم إمكان التمانع المستلزم للعجز المستلزم للبعد عن رتبة الإلهية {فالذين} أي فتسبب عن هذا أن الذين {لا يؤمنون بالآخرة} أي دار الجزاء ومحل إظهار الحكم الذي هو ثمرة الملك والعدل الذي هو مدار العظمة {قلوبهم منكرة} أي جاهلة بأنه واحد، لما لها من القسوة لا لاشتباه الأمر- لما تقدم في هود من أن مادة نكر تدور على القوة وهي تستلزم الصلابة فتأتي القسوة {وهم} أي والحال أنهم بسبب إنكار الآخرة {مستكبرون} أي صفتهم الاستكبار عن كل ما لا يوافق أهواءهم وهو طلب الترفع بالامتناع من قبول الحق أنفة من أهله، فصاروا بذلك إلى حد يخفى عليهم معه الشمس كما قال تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} [هود: 20] وربما دل {مستكبرون} على أن {منكرة} بمعنى جاحدة ما هي به عارفة.
ولما كانوا- لكون الإنسان أكثر شيء جدلاً- ربما أنكروا الاستكبار، وادعوا أنه أو ظهر لهم الحق لأنابوا، قال على طريق الجواب لمن كأنه قال: إنهم لا يأبون استكباراً ما لا يشكون معه في أن هذا كلام الله {لا جرم} أي لا ظن في {أن الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يعلم} علماً غيبياً وشهادياً {ما يسرون} أي يخفون مطلقاً أو بالنسبة إلى بعض الناس. ولما كان علم السر لا يستلزم علم الجهر- كما مضى غير مرة، قال: {وما يعلنون} فهو أخبر بذلك إلا عن أمر قطعي لا يقبل المراء.
ولما كان في ذلك معنى التهديد، لأن المراد: فليجازينهم على دق ذلك وجهل من غير أن يغفر منه شيئاً- كما يأتي التصريح به في قوله: {ليحملوا أوزارهم كاملة} [النحل: 25] علل هذا المعنى بقوله: {إنه} أي العالم بالسر والعلن {لا يحب المستكبرين} أي على الحق، كائناً ما كان.
ولما كان الطعن في القرآن- بما ثبت من عجزهم عن معارضته- دليل الاستكبار قال تعالى عاطفاً على قوله: {قلوبهم منكرة}: {وإذا قيل} أي من أيّ قائل كان في أي وقت كان ولو تكرر {لهم} أي لمنكري الآخرة: {ماذا} أي أي شيء {أنزل ربكم} أي المحسن إليكم المدبر لأموركم {قالوا} مكابرين في إنزاله عادّين ذا موصولة لا مؤكدة للاستفهام: الذي تعنون أنه منزل ليس منزلاً، بل هو {أساطير الأولين} مع عجزهم بعد تحديهم عن معارضة سورة منه مع علمهم بأنه أفصح الناس وأنه لا يكون من أحد من الناس متقدم أو متأخر قول إلا قالوا أبلغ منه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8